بقلم: راغدة عسيران
في كتابه الأخير "لا مستوطن ولا أصلاني"، حيث ينظّر لتعايش المستوطن والأصلاني في دولة "مواطنيها" وتحويل المستوطن الى مهاجر، يروي الأكاديمي الإفريقي البارز محمود ممداني كيف ولماذا انتقل الزعيم نلسون مانديلا في جنوب أفريقيا من الكفاح المسلّح، على غرار الجزائر والموزامبيك، الى النضال السلمي والتعايش مع المستوطنين البويرز، ومن فكرة التحرير الى فكرة إسقاط نظام الأبارتايد، بعد اعتقاله ونفيه في العام 1962.
لقد كان الكفاح المسلح مكلف جدا، انسانيا واقتصاديا وسياسيا، وفقا للرواية، حيث نزح الثوار الى البلدان المجاورة هربا من القمع والاعتقال، وكان قد اعتقل المئات منهم الى جانب مانديلا. فأصبح هؤلاء الثوار "مناضلين مهنيين" يستنهضون الشعوب الأفريقية والعالمية للوقوف الى جانبهم، واستطاعوا تشكيل رأي عام عالمي مناهض لنظام الفصل العنصري الذي أقره المستوطنون البويرز في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين.
اقتصاديا، وبعد الازدهار الاقتصادي الذي شهدته دولة جنوب إفريقيا في الستينيات، خشي الثوار الأفارقة الرحيل الجماعي للمستوطنين المالكين لمعظم وسائل الانتاج والشركات والبنوك، كما كان قد تم في الجزائر عند التحرير، بسبب تأثيره السلبي على استمرار الدولة ما بعد الاستقلال. واعتبر جيل الثورة المسلحة، الذي تخلى عن هدف التحرير، أن العمال والطلاب الأفارقة والفئات الأخرى من الآسيويين و"الملوّنين"، الذين استفادوا من الازدهار الاقتصادي وباتوا يشلكون أكثرية سكانية في المدن الكبيرة، جديرون بمواصلة النضال بطرق أخرى، لا سيما وأن هدف إسقاط نظام الفصل العنصري بات شعارا عالميا، بعد المجازر المتلاحقة التي اقترفها نظام جنوب إفريقيا بحق الأفارقة.
ولأن النضال "السلمي" في جنوب إفريقيا انتهى بإقامة دولة لجميع مواطنيها بعد زوال نظام الفصل العنصري، تبنّى عدد من المثقفين العرب والفلسطينيين وبعض الحركات السياسية مقولة "الفصل العنصري" لتوصيف الاحتلال الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وكانوا قد لاقوا تشجيعا وترحيبا من قبل الحركات اليسارية المناهضة للعنصرية في الغرب خاصة، بسبب تفاعل الرأي العام الغربي مع هذه المقولة، أكثر من تفاعله وتأييده لفكرة التحرير، لا سيما أن المعني هو الكيان الصهيوني.
لكن، رغم التشابه بين دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا والكيان الصهيوني، ثمة أمور كثيرة طمسها كل من تبنّى توصيف الكيان الصهيوني بنظام "الفصل العنصري" لتبرير خياره، أهمها:
لقد تم تدمير شبه كليّ للمجتمعات الإفريقية على مدى فترة الاحتلال الاستيطاني، من الناحية الديمغرافية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وتلاعب المستوطن البريطاني الحاكم بالقبائل الأصلانية، ولغاتها وتكوينها وتقاليدها ودياناتها وقوانينها، كما فرض عليها نظرته التفتيتية للعلاقة بينها وكتب تاريخها المشوّه، بحيث فقدت هذه الشعوب المقهورة أهم مكوّنات صمودها أمام الهجمة الغربية المتوحشة. وهذا ما فصلّه كتاب محمود ممداني.
لكن هذا لم يحصل في فلسطين حيث حافظ الشعب الفلسطيني على عقيدته وانتمائه وتاريخه القديم والحديث، بسبب وجود الأمة التي ينتمي اليها، وحيث تشكل فلسطين قضيتها المركزية. وحافط كذلك على تماسكه رغم التهجير والتفتيت، اذ ما زال يصارع ويقاوم كل محاولات العدو لتجزئة الشعب الواحد الى فئات متباينة، وذلك بسبب حداثة الاستعمار الصهيوني نسبيا، حيث وصل الى البلاد وكان المجتمع الفلسطيني يعدّ من أرقى المجتمعات العربية، ولم يصل التشويه المستمر الى الآن، التشوية البنيوي والوظيفي، الى فقدان السيطرة على مكوّنات الصمود.
ثم اضطر المناضلون الأفارقة الى تزوير التاريخ لإرضاء المستوطنين، كما ذكر الأكاديمي ممدوني، ناقلا مقطع من خطاب الرئيس مباكي الذي تولى منصبه بعد مانديلا، الذي يصرّح أن الاستعمار البريطاني وحده، وليس البويرز، من استوطن البلاد، فالأفارقة والبويرز على حد سواء كانوا ضحايا البريطانيين... بالنسبة للكاتب، هي محاولة جيدة لتكوين هوية سياسية جديدة مشتركة. في هذا الخصوص، حاول بعض المطبعيّن إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني و"الإسرائيلي" "المشترك" في فترة ما بعد اتفاقيات أوسلو، وقد فشلت هذه التجربة، رغم الدعم الدولي لها.
لكن، أهم النقاط التى ميّزت الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين والاستعمار الأوروبي لجنوب إفريقيا، هي مكانة القدس والمقدسات في الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي، من ناحية، وهدف المحتلين الصهاينة إزاء القدس والمسجد الأقصى، من ناحية أخرى. لم تحتوِ دولة جنوب إفريقيا على رمز مماثل، ما يرفع الصراع العربي الصهيوني الى مستوى آخر، إذ كما صرّح حديثا الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي المجاهد زياد النخالة، على قناة "المسيرة": "عندما نتحدث عن القدس نتحدث عن جزء من عقيدة الأمة ولسنا نتحدث عن هذه الجغرافيا الصغيرة.. نعم هي صغيرة لكنها تختصر كل تاريخ الأمة وحضارتها ". هل إسقاط نظام الابارتايد الصهيوني يعني المشاركة اليهودية الإسلامية في المسجد الأقصى، بدلا عن تقسيمه؟ أم الحل هو استعادة السيادة الاسلامية الكاملة والخالصة على المسجد الأقصى المبارك؟
والنقطة الحساسة الأخرى هي سياسة التطهير العرقي الذي يمارسها الكيان الصهيوني إزاء الشعب الفلسطيني، التي تعني تهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وممارسة الضغوط حتى يرحل الآخرون ليحلّ مكانهم المستوطنون اليهود. لا يحتاج الكيان الاستيطاني الصهيوني الى يد عاملة فلسطينية، كما احتاج المستوطنون الأوروبيون الى اليد العاملة الإفريقية في المناجم والمصانع. وبسبب التهجير والتفتيت، لن يتجمّع العمال والطلاب الفلسطينيون العرب في مدن الكيان لزعزعة أركان نظامه بطريقة سلمية، حيث أصبح الفلسطينيون أقلية في وطنهم. ما يعني أن مسألة اللاجئين وعودتهم الى وطنهم الأصلي واستعادة أملاكهم تمثل أهم خطوة لتكوين أكثرية ديمغرافية في فلسطين، وذلك يتم عبر معركة التحرير.
يتهم الأكاديمي رائف زريق، في مقال صدر قبل أسابيع في صحيفة هآرتس الصهيونية (17/3) بعنوان "أبرتهايد، الآن بمساعدة الفلسطينيين أيضا" الفلسطينيين بالمساهمة في سياسة الفصل العنصري، كونهم يطمحون الى فصل ذاتهم عن المستوطنين "الإسرائيليين"، داخل كيان سياسي مستقل (حلّ الدولتين) ولا يسعون الى الحياة المشتركة معهم. لكن، لم يخطر بباله أن حركات التحرر الوطني تسعى عادة الى التحرير والتحرّر من المستوطن والمستعمر وطرده من بلادها، وأن المستوطن الذي جاء ليحلّ مكان الشعب الأصلي ليس مهاجرا سلميا يريد التعايش وتقاسم الخيرات، بل محارب متوحّش تدعمه المنظومة الدولية الرأسمالية الاستعمارية، يريد تزييف التاريخ لتبرير وجوده الاستيطاني.
يعبّر رائف زريق، في هذه المقالة، عما يسعى اليه معظم من يصف الكيان الصهيوني بـ"الفصل العنصري" بدلا عن "كيان استيطاني إحلالي توسعي"، أي التخلي عن التحرير والتحرّر، والاكتفاء بالمطالبة بالمواطنة في دولة جميع مواطنيها تم "تفكيك" صهيونيتها (كيف وبأي آلية؟) دون الحاجة الى الكفاح المسلح، الذي تتنكر له هذه المدرسة وتنكر أهميته، ما يشرعن ويبرّر وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، من ناحية، ومن ناحية ثانية، يعني التخلّص من مسألة اللاجئين التي قد تعيد الأمور الى أصولها والى النكبة والتهجير وسرقة الأملاك، وإبعاد الشعوب العربية والإسلامية عن الصراع ونفي وجود الأمة الحاضنة، وتعطيل أهمية المقدسات والمسجد الأقصى في الصراع.
التعليقات : 0