بقلم: راغدة عسيران
منذ قرابة السنتين، تشهد منطقة جنين ومخيمها اشتباكات مع جنود الاحتلال الصهيوني خلال اقتحاماتهم اليومية، وعلى الحواجز، ويرتقي الشهداء واحداً تلو الآخر، دفاعا عن حرية الانسان وكرامته. وخلال الأيام الماضية، ارتقى ثلاثة شهداء، أمجد عدنان خليلية (21 عاما) وعزالدين باسم حمامرة (24 عاما) من "سرايا القدس" – مجموعات جبع، ويزن سامر الجعبري (19 عاما) من بلدة اليامون، ليصبح عددهم سبعة شهداء، من مجموع 14 شهيدا في الضفة الغربية ارتقوا منذ بداية العام.
في مواكب تشييع الشهداء الجماهيرية الهائلة، والتي تعبّر عن الالتفاف الشعبي حول المقاومة، وفي أكثر من منطقة في الضفة الغربية المحتلة، تخرج شعارات تذكر الشهيد جميل العموري، من مخيم جنين، وقد ذُكر أيضا في موكب استقبال الأسير المحرّر كريم يونس، في بلدة عارة بالداخل الفلسطيني المحتل، قبل عشرة أيام، ما يشير الى أن الشهيد جميل العموري بات يشكّل رمزا حيا يلهم شباب الاشتباك مع المحتل.
لُقّب الشهيد العموري بـ "مجدّد الاشتباك"، وهو من حمل السلاح الذي اشتراه، وحثّ أبناء مخيم جنين وسائر أبناء الضفة الغربية على مواجهة جيش الاحتلال والاشتباك معه في كل المناسبات والأماكن. ولد الشهيد بتاريخ 26/11/1997، في مخيم جنين، أي أنه شهد، وهو طفل، معركة المخيم البطولية في نيسان/ابريل 2002، وتعرّف على أبطاله ورموز صموده، الشهداء والأسرى. وكسائر أبناء المخيم، استوعب أن وحدتهم الميدانية، وتماسك مجتمعهم، هي من أهم عناصر انتصارهم على المحتل.
قبل معركة "سيف القدس" في أيار/مايو 2021، سلك الشهيد جميل العموري طريق المقاومة والاشتباك مع العدو، ونفّذ أول عملياته في كانون الثاني/يناير 2020، عندما أطلق رصاصه ضد جنود الاحتلال حين كانوا يهدمون للمرة الثانية منزل الأسير أحمد القنبع، بجنين، المعتقل منذ 2018.
يروي أبو محمد، أحد اخوانه في كتيبة جنين: "كان وحده، وهو أحد مؤسسي الكتيبة، كان يقول للشباب "بالله عليكم اطلقوا النار"، كان وحيدا بكل معنى الكلمة. التفّ حوله بعض شباب المخيم، كان عددهم قليل، بدأوا باستهداف جنود الاحتلال وعلى الحواجز قرب جنين". ويقول الشهيد القائد محمد السعدي ورفيق الطفولة للشهيد (استشهد يوم 1/12/2022)، أن "جميل معلّم ومؤسس الكتيبة"، وأنه من "جدّد الاشتباك" و"رجّع المخيم الى 2002" و"أحيا إرث الشهداء في مخيم جنين".
منذ ان اتخذ قراره، كان على الشهيد جميل العموري، نفض كل الأفكار التي روجّتها السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، والتي تزعم، أنه لا يمكن التخلّص من الاحتلال إلا عن طريق المفاوضات مع العدو والمجتمع الدولي، ولذلك، يجب على الفلسطينيين التأقلم والتعايش مع المحتل والقبول بما يسمح به. رفض جميل العموري هذا المنطق الذي يعني الذّل والمهانة والمزيد من القتل والاعتقال والدمار. أراد إعادة روح القتال الى المخيم وحثّ أهله على رفض الاقتحامات والإذلال، واستعادة مبادرة المقاومة.
خلال معركة "سيف القدس"، تشكّلت نواة كتيبة جنين، "بدأت الكتيبة تكبر، بدأ ظهورها"، كما يقول أحد أخوانه، وبعد مسيرة جابت شوارع المخيم، دعا الشهيد العموري "أبناء شعبنا للاشتباك مع هذا المحتل في كل المواقع وخطوط التماس. رسالتنا الى شبابنا الذين يمتلكون السلاح في الضفة، لا تطلقوا رصاصكم في الهواء، أن هذا السلاح أمانة في أعناقكم، وواجب ديني وشرعي توجيهه الى الاحتلال كي يعلم هذا المحتل أن الضفة عصية عليه".
تجاوب مع ندائه شباب المخيم من كافة الفصائل المقاومة، وليس فقط من حركة الجهاد الإسلامي، الذي انتمى الى صفوفها، إذ كان له علاقات واسعة في المنطقة، الشمالية خاصة. يضيف صديقه أبو أحمد "عندما استشهد الشهيد جميل العموري، استشهاده أثر كثيرا على الشباب والشارع". وتقول والدته: "الأسرى يتواصلون معي، يواسونني ويقولون نحن رافعين رأسنا بجميل"، وتقول لها أمهات الشهداء: "جميل يرفع الرأس"، "كل الشباب تأثرت بجميل"، ويضيف الشباب "كلنا على درب جميل".
يوم الخميس 10/6/2021، بعد معركة "سيف القدس"، نصبت قوة اليمام الصهيونية كمينا في جنين قرب مقر جهاز الاستخبارات الفلسطينية، وأطلقت النار على المقاوم جميل العموري. فخرج من السيارة واشتبك مع المحتلين الى أن استشهد، كما استشهد في ذلك اليوم الملازم أدهم عليوي والنقيب تيسير عيسة. وكان عمره 24 عاما. وخطفت القوات الصهيونية جثمانه، الى اليوم.
لم يكن الشهيد جميل العموري أول من أطلق رصاصه على الصهاينة في الضفة الغربية، بعد انتفاضة القدس التي فجّرها الشهيد مهند الحلبي في 3/10/2015، اذ أقدم عدد من المجاهدين والفدائيين على تصويب نارهم ضد الجنود وعلى الحواجز في عدة مناطق بالضفة الغربية، لكن ما فعله الشهيد جميل العموري، من خلال سيرته وأقواله، هو أنه نظّم النواة الأولى لمجموعة من الشباب، ولم تعد العمليات "فردية" أو شبيهة لها، كما كانت قبل معركة "سيف القدس". ساعده في ذلك حالة الغليان التي تعيشها الضفة الغربية بعد هذه المعركة المفصلية، وانسداد أفق "التسوية" وتصاعد التوحشّ الصهيوني ضد الفلسطينيين، وخاصة سيرته الجهادية التي جذبت الشباب اليه واتخذته مثالا.
التّف حول الشهيد العموري جمهور واسع في الضفة الغربية، بداية، بفضل هذه السيرة النقيّة التي تناقلتها لاحقا وسائل الإعلام والتي ذكرها أخوانه في جنين ونابلس وبيت لحم وغيرها من مدن الضفة الغربية.
يقول أحد أخوانه في الكتيبة: "جميل فجّر ثورة على مستوى الوطن كله، في نابلس (يتحدثون)عن جميل العموري، في بيت لحم أيضا. (لاحظوا) أنه يصرف من جيبه، أن هناك صدق، وهو يقاتل الاحتلال، الناس التفت حوله". ذكرت والدته انه باع السيارة التي "جبناها له ليشتغل عليها ويكّون نفسه" ليشتري "بارودة" ويسلك طريق الجهاد والشهادة. في المقابل، عرضت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة على مقاومي "عرين الأسود" في نابلس التخلي عن أسلحتهم وعن جهادهم مقابل شراء سيارة، كما ورد في وثائقية "الخافي أعظم" على فضائية الجزيرة. باع الشهيد جميل العموري ممتلكاته ليشتري بعض طلقات وقطع سلاح يوزّعها على شباب الاشتباك دون التمييز بين الفصائل المقاومة. فأصبح الشهيد مطاردا من قبل قوات الاحتلال، فكان ينام أحيانا في السيارة أو في أزقة المخيم.
على إثر استشهاده في حزيران/يونيو 2021، كبرت كتيبة جنين والتحق بها العشرات من المقاتلين، و"اتخذت من ذلك الشاب أبا روحيا لها". انتشرت صوره في المخيم، ورفعت في المسيرات ومواكب التشييع، وزيّنت بنادق المجاهدين (بندقية الشهيد أمجد خليلية من جبع). يظل ذكر الشهيد حيّا من خلال الفيديوهات الخاصة بشهداء المخيم، حيث يظهر الى جانب شهداء ارتقوا من بعده، كالشهيد متين ضبايا (استشهد يوم 14/10/2022)، المشارك في تأسيس الكتيبة، أو الشهيد القائد محمد السعدي وغيرهما. وفي ذكرى استشهاده الأول، كتب الشهيد يزن الجعبري على صفحته الخاصة: "لا خير فينا ان نسيناك يا بطل.. الله يرحمك".
سيرة الشهيد جميل العموري تتميّز بكونه صدق مع ربّه ونفسه وشعبه، وقرّر مواجهة الاحتلال، وتنظيم الشباب حوله لاستعادة إرث مخيم ضحى بأهله، قبل 20 عاما، من أجل الحرية والكرامة. بنيت كتيبة جنين بدماء الشهداء وبفكر سليم ومقاوم، وتوسّعت وكبرت، خاصة بعد عملية نفق الحرية في 6/9/2021. ثم انتشرت الكتائب المماثلة في الضفة الغربية التي تبنّت طريق الوحدة الميدانية، كما في "عرين الأسود"، للتصدي لمحاولات تجزئة المقاومة، فصائليا وجغرافيا ولتصويب السلاح ضد المحتل الصهيوني الإرهابي، لأن لا خيار أمام الشعب الفلسطيني إلا خيار المقاومة.
التعليقات : 0